امرأة فعلت ما لم تفعله أوروبية قبلها



لم يرتبط كاتب باحدى شخصياته مثلما ارتبطت ادموند شارل روو، بشخصية ايزابيل ايبرهارت، بطلة كتابها «الرغبة في الشرق»، فالعلاقة بين المرأتين علاقة روحية عميقة جمعت التناقضات والتوازيات كلها، علاقة الشابة الرحالة المغامرة المتنقلة التي توفيت في مطلع العشرينات من عمرها، مع الكاتبة السبعينية، الباحثة الهادئة المتأملة في مسار التاريخ
ثمة خيط غير مرئي بين الكاتبة ادموند شارل روو، وبطلتها ايزابيل ايبرهارت (1877-1904)، خيط من كهرباء التأثر العميق الذي مست شحناته الجمهور الذي تتبع تقديم الكاتبة لعملها الموسوعي «الرغبة في الشرق» بطنجة المغربية اخيرا. فمن هي ايزابيل ايبرهارت التي كتبت ادموند شارل روو سيرتها في 1200 صفحة كاملة، اضافة الى 250 صفحة اضافية تمثل الاحالات على المصادر التي استعانت بها المؤلفة على امتداد 12 سنة من العمل الدؤوب، وعبر عدد كبير من الاسفار الى روسيا الوطن الاصلي لبطلة الكتاب، وجنيف حيث نشأت ودرست، والجزائر حيث استقرت واعتنقت الاسلام وتوفيت باكرا في 1904، وتحول قبرها مزارا وعلامة على التقاء اقدار الشرق بالغرب؟
فكيف بدأت حكاية ايزابيل ايبرهارت؟ لقد انطلقت القصة في الحقيقة على يد المارشال ليوطي، الذي كان احد رموز التوسع العسكري الفرنسي في شمال افريقيا، والذي كان، الى جانب ذلك، رجلا على درجة عالية من الحساسية الادبية والعلمية، فعندما توفيت شابة تحمل اسم ايزابيل ابرنهارت، عن سن لا تتجاوز السابعة والعشرين، في مطلع القرن الماضي، خلال فيضان جارف ضرب قرية عين الصفراء الجزائرية، وجد عناصر اللفيف الاجنبي المنتمون الى الجيش الفرنسي آنذاك، والذين كلفوا عمليات الانقاذ، الشابة الجميلة ايزابيل، ميتة غرقا تحت انقاض بيتها الذي هدمه الفيضان، وكانت تمسك بيديها مخطوطا كبيرا هو عبارة عن كتاب تأملات وملاحظات خطت فيه مسارها العميق المتقلب في حياتها التي كانت قصيرة بقدر ما كانت عريضة ضاجة بالمغامرات. فمن الذي أوصل الشابة الروسية الاصل التي كانت تتقن السباحة الى الموت غرقا تحت انقاض بيت قروي ما دخلته الا لتنقذ مخطوطها، بدليل انها انقذت قبل ذلك مباشرة، حياة طفل قبل ان تعود الى البيت وتقضي ليعثر عليها متابطة اوراقها؟
ان الامر يتعلق بشابة تنتمي الى اسرة نبيلة من اسر مدينة بطرسبرغ الروسية، كان ابوها الحقيقي، حسب ادموند شارل روو، قبيل الثورة البلشفية قائدا عاما لشرطة القيصر. وبعد الثورة هاجرت الاسرة الى جنيف، وهناك سوف يظهر النبوغ المبكر لايزابيل ايبرهارت التي ابانت عن موهبة في التحصيل مكنتها من الاتقان التام لاربع لغات حية، والمعرفة الجيدة بسبع من اللغات الاخرى، اضافة الى مجموعة من اللغات الميتة، لكن اين العلاقة مع الشرق في كل هذا؟
تبدأ الحكاية مع اللغة التركية التي تعلمتها ايزابيل لانها احبت شابا تركيا، قبل ان تتعلم العربية وتتقنها في ذلك الزمن المبكر، وتكاتب بها بعضا من كبار المستشرقين الروس المعاصرين لها، وعمرها لم يتعد بعد الرابعة عشرة. ولم تسلم من فضولها العلمي حتى اللهجات العامية المحلية المستعملة في الشرق، وهكذا اشترت كتابا يتحدث عن النظام النحوي للغة القبائلية الجزائرية وتعلمتها عبره.
وعندما بلغت الخامسة عشرة من العمر قرأت اعلانا صغيرا نشره ضابط فرنسي مصاب بالسأم خلال تأديته الخدمة العسكرية في الجزائر، فسارعت للكتابة اليه، وسرعان ما نشأت بين الاثنين قصة حب رومانسي عبر المراسلة، وقررت لقاءه فغادرت النمسا الى الجزائر. وبعد رحلة طويلة وشاقة اكتشفت انه لا يطابق مواصفات فارس الاحلام الذي تخيلته، ففتر حبها له بعدما التقته، الا انها ستسقط في حب آخر سوف لن يغادر قلبها حتى الموت: حب الشرق الساحر الذي ملأت صوره مخيلتها عبر ما قرأته عنه، لذا سوف تقوم بما لم تقم به أية امرأة أوروبية وحدها في مطلع القرن الماضي. ستعتنق الاسلام وتسافر عبر الصحراء الجزائرية التونسية الشاسعة مع القوافل التجارية من دون موارد مالية تذكر. وخلال احدى سفراتها سوف تتعرض لمحاولة اغتيال من طرف احد الاشخاص لاسباب غير واضحة، على اثر شائعات بكونها «جاسوسة اوروبية». وأمام المحكمة التي عقدت بعد اعتقال الجاني، قال هذا الاخير انه قام بمحاولة قتل المرأة الاوروبية الغريبة الاطوار التي تتنقل في ملابس الرجال، «لانها تتحدى مشيئة الله»، في حين طلبت ايزابيل الصفح عنه لانه «واقع التأثير السلبي لاشخاص آخرين».
وعندما توفيت امها التي انتقلت الى الجزائر ايضا، قامت بدفنها وفقا للتقاليد الجزائرية والاسلامية، فالمرأة كانت قد اعتنقت الاسلام تحت تأثير ابنتها، رغم انها لم تكشف عن ذلك امام الجالية الفرنسية والاوروبية الموجودة بالجزائر آنئذ. وفي الاشهر الاخيرة من حياتها اقامت ايزابيل في قرية عين الصفراء الموجودة قرب الحدود المغربية الجزائرية بهدف تغطية العمليات التي كان يقوم بها الجيش الفرنسي في المنطقة، غير انها سرعان ما ستموت غرقا في حادثة فيضان ناجم عن امطار طوفانية، وتدفن بهذا المكان وفقا للطقوس الاسلامية المحلية. واشتهرت بعد ذلك، بعدما تم نشر مخطوطاتها التي يرجع الفضل في انقاذها للمارشال ليوطي، اما خلال حياتها فلم تنشر شيئا، اللهم بعض المقالات الصحافية التي كتبتها لاحدى اليوميات حول الهجوم العسكري الفرنسي على المنطقة الجزائرية المغربية من الحدود، وبذلك تكون اول امرأة في العالم تشغل وظيفة مراسل حربي، وقد تمت لاحقا كتابة سيرتها من طرف العديد من مؤرخي الادب ونشر مجموعة من أعمالها: كتابات حميمة (1991)، كتابات على الرمال (1988)، رحلة شرقية (1991)، في الظل الساخن للاسلام (1996).
بعد وفاتها استمرت اسطورتها قوية، حتى في بعض الأوساط الجزائرية التي رأت فيها جاسوسة لليوطي.
قبر ايزابيل ايبرهارت ما زال موجودا حتى اللحظة بعين الصفراء، فيما ترقد امها في قبر آخر بعنابة، وقد منحها كتاب ادموند شارل روو «الرغبة في الشرق او حياة ايزابيل ايبرهارت» حياة جديدة. وقبل فترة راسل حارس القبر المؤلفة الفرنسية التي أحيت ذكرى هذه المرأة الاستثنائية بواسطة كتاب يعد اليوم معلمة من معالم فن السيرة في الادب المعاصر. راسلها قائلا انه قد اصيب بمرض عضال لا يرجو منه شفاء، لذا فهو يطلب من ادموند شارل روو، التدخل لدى السلطات الجزائرية قصد تعيين حارس آخر يحل محله بعد رحيله، ويستمر في حماية القبر الرمز الذي يجسد اسطورة واقعية من اساطير القرن العشرين، بكل ما في كلمة الاسطورة من معاني القدرة على البقاء.


.

ليست هناك تعليقات: