"في كثير من المرات و على طرق حياتي الشريدة كنت أسائل نفسي : الى أين أذهب ؟ و توصلت الى أن أفهم أنني بين أبناء الشعب و عند البدو أتجه الى ينابيع الحياة ..أنني أقوم بسفر في أعماق الانسانية"- ايزابيل ابرهارت-
أن تكون امرأة هي بداية العذاب...
أن تكون امرأة و أديبة هو عمق العذاب ...
أن تكون امراة و أديبة و مهووسة بالحرية هو العذاب كله و الألم لبّه...
كانت ايزابيل ابرهارت هذا كله...
كانت امرأة لم تكن تريد أن تكونها فارتدت ثياب الرجال لتخفي معالمها ، مفاتنها ، أنوثتها و تكتم صرخة الجمال فيها...
و كانت أديبة أو مشروع أديبة لم يكتمل تمام الاكتمال لأن الموت كان قاطع الطريق الذي لم يكن في الحسبان فاقتلع النبتة قبل ازهارها...
و كانت عاشقة للحرية ، تواقة الى الانطلاق نحو الآفاق البعيدة و الأمصار النائية فقفز مسار حياتها على الجغرافيا و حدودها و التضاريس و تعقيداتها و جعلها تسافر بعيدا و تنأى عن بلدها طويلا و تتأرجح بين الثرى و الثريا فتعرف متعة الروح في ذروة ارتفاعها و عذابها في سقوطها، و حيرتها في صراعها الجهنمي لتتحرر من جاذبية الأشياء في فوضاها و دونيتها.
من روسيا ..و روسيا في نهاية القرن التاسع عشر برد و دم و دموع ، الى صحراء الجزائر و هي آنذاك حرارة و سحر و ثورة ...من النقيض الى النقيض سار خط الحياة عبر طريق صعب تتخلله العقبات ، الانحناءات و السقطات.
و لكن كانت الارادة لا تقهر و كان في العمق حب لا يقاوم لحرية لابد منها و عشق فطري للمغامرة و الترحال.
و من تناسل كل هذا ولدت صبية على مهدها حط عصفور من الشرق و خلف نافذتها تبسمت نجمة من ذاك الجنوب الساحر البعيد.
و جاءتنا امراة من قلب أروبا تسعى ..قالت:"يا قوم ، بساطتكم تستهويني ، دفؤكم يملؤني ، دينكم ملاذ جنوني ، صحراؤكم مرتع أحلامي، فاقبلوا انتمائي اليكم و حبي لأرضكم و هوسي بشرقكم..اقبلوني..."
جاءتنا اذن امراة من أروبا في جسد فتاة لا تتعدى العشرين من عمرها ، في هندام رجل و الرجل هندام في مجتمع نصفه رجال و نصفه ضحايا رجال ، في لباس فارس عربي و العرب من المحيط الى الخليج "اما نعجة مذبوحة أو حاكم قصاب"...جاءتنا ايزابيل ابرهارت أو محمود سعدي كما كانت تمضي بذلك قصصها و تحقيقاتها في الصحافة الجزائرية في بداية القرن العشرين فكانت بيننا رسول حب و سلام.
ولدت في سويسرا سنة 1877 من أم روسية مسيحية و أب؟؟؟-احتار الناس في نسبها- قالت عنه هي أنه تركي مسلم و قال بعض من كتبوا عنها أنه ذلك الكاهن الارمني ، الارثذوكسي الذي ترك الكنيسة و قد أتى به الجنرال زوج أمها ليعلم له أبناءه الخمسة ففر بالزوجة من معتقل الاستبداد القيصري الى سويسرا و هي البلد الهادئ المسالم الذي يتقاطع فيه الحب و السلم.
الجنرال "بول كارلويتش دي موردر" مات قبل ثلاث سنوات من ميلاد ايزابيل فهو ليس والدها ، و المعلم الارمني الحر أعطاها من فكره و قلبه و لكنه لم يمنحها اسمه هو المقيد في سجلات الحالة المدنية تحت اسم "ألكسندر تروفيموسكي" .و ذهب أحد كتاب سيرتها و هم كثر "بيار آرنو" و هو المهووس ب"أرثر رامبو" و جعل الشاعر المنبوذ أبا لها لعلاقة روحية أو ربما وراثية تربطهما: كلاهما كانا متمردين ، مسحورين بالانطلاق نحو الآفاق البعيدة و المغامرات الغريبة.
و ليس مهما أن نعرف نسبها -نحن المولعون بالبحث في الأنساب- فربما جهلته هي نفسها فجعلت لها الأب الذي تريده لكل فترة من حياتها و طارئ من طوارئ أيامها .و ما منعها ذلك من أن تكون امراة فوق العادة ، مهمتها أن تحب فوق العادة شيئين اثنين: الشرق و الحرية.
و الشرق عند ايزابيل فوق ما أتى به المستشرقون .الشرق ليس بوابة افريقيا و افريقيا أسد هصور يغفو لفترة و ينتفض لفترات..الشرق عند ايزابيل عمق الانسانية في بساطتها و حرارتها و سجيتها..الشرق ليس عالما مجهولا ، سحريا ، اكزوتيكيا ..انه أرض تفور منها روائح الثورة و الحب و الجمال و شعب رغم الأصفاد حر الحواس ، حر المشاعر ، حر العقيدة..الشرق اسلام اعتنقته و أحبته حد التصوف أحيانا ، و اله رأته على أرضه البكر و في أعماقها حين تصفو الاعماق و ترتاح في كنف القوي العزيز و قد تحررت من كل العلائق التي ترهق و من كل شيء.
في سن العشرين تكسر الفتاة كتل الجليد الذي أحاط بها في أروبا و تنطلق بها أهواءها ، شيء في طبيعتها و أشياء في نفسها الى أجواء ترى فيها الوجه الآخر للحياة ، للأرض ، للانسان ، و تتلمس ذلك البعد الذي ان تحركت وفقه خفض الكوكب من سرعته احتراما لآهليه و حبا في ساكنيه، مثلها مثل الكثير من الأروبيين الذين خنقتهم بورجوازية القرن التاسع عشر فانطلقوا باحثين عن أراض عذراء يمتلئ فوقها ذلك الخواء الروحي الذي جوّف خلاياهم كلها و يجدون فيها شيئا جديدا ساحرا و جذابا.
في سن العشرين اذن تتبع الفتاة والدتها الى عنابة بالجزائر .و هناك تعتنق الوالدة الاسلام و تموت بعد ذلك بقليل فتعود الصبية الى جنيف لتقوم بواجبها اتجاه ذاك الذي رباها .و لكنه يموت هو الآخر بعد زمن قصير فتعود الى افريقيا و تعبر على صهوة حصان تونس و الشرق الجزائري حتى الجنوب و هي في لباس فارس عربي و قد تمكنت من لغة البلد فأتقنت التعامل بها .
و في الجزائر و بالضبط في صحرائها تجد ايزابيل نفسها ، حنينها ، قلمها و حتى دينها حيث تنضم في مدينة"الوادي" الى الجمعية الدينية "اخوان القادرية" و تزور الزوايا و تجد في التصوف راحة داخلية سرعان ما يحطمها القلق الفطري الذي يركب الفتاة .ذلك أن هذه الحسناء ، القوية ، الساحرة، كانت تتميز بطبيعة متقلبة و أهواء متناقضة تجعلها تتألم و لا تستقر على حال كما قالت هي عن نفسها.فتمضي حياتها متأرجحة بين النقيضين : بين بيوت العبادة و بيوت اللهو و المجون .و في صعودها و هبوطها كانت روحها تواجه قدرا سيزيفيا قاسيا.
غير أن أبرز و أسعد فترة في حياتها هي تلك التي قضتها في مدينة "عين الصفراء" أين التقت بالجنرال "ليوتاي" المكلف من طرف الادارة الفرنسية باعادة الامن الى الحدود الجزائرية المغربية فتنشأ بينهما صداقة عميقة مكنتها من القيام بتحقيقاتها الصحفية بكل حرية ، فجابت الصحراء مع قوافل البدو تقاسمهم حياتهم الصعبة على الرمال الساخنة و المرتفعات القاحلة فزارت القصور و القرى الصحراوية و الزوايا و الاماكن المقدسة و ذابت في المجتمع البدوي كل الذوبان .فاذا استحوذ عليها حب المغامرة انطلقت باحثة عن جماعات المتمردين لوحدها هي التي انضمت الى أحد معسكرات الجنود الفرنسيين و عاشت معهم و خضعت مثلهم لصرامة النظام العسكري.
جربت كل شيء اذن و قبلت من الرجال كل شيء أيضا الا أن تعامل كأنثى.
هل هو الجنون؟
هل هو التحدي؟ تحدي الانوثة أم تحدي الانثى التي تعرقلها الانوثة عن اتيان المعجزات و لكنها تأتيها رغم ذلك؟أم هو تحد للرجال في عقر قوتهم؟
أم هو بكل بساطة البحث عن معنى للحياة ، عن عمقها ، عن عصارتها ؟
ربما هو كل هذا ..و ربما لاشيء من هذا فقد اشتط الناس في الحديث عن عاشقة البادية التي لفها السحر و الغموض.
لم تقم ايزابيل ابرهارت بأي دور سياسي ، بل كانت دارسة لحياة أهالي البلد الذين استضافوها و أحبوها فاتخذت منهم أصدقاء لها و رفضت أن تلعب معهم دور الاستشراق الذي كان موضة ذلك العصر فتنظر اليهم بعين الدهشة و الغرابة و الفوقية ، فأثارت بذلك حفيظة المستوطنين الذين لم يحبوها و لا استساغوا مقالاتها و قصصها و أفكارها بل قاوموها و هاجموها و ربما هم الذين خططوا لمحاولة اغتيالها الفاشلة.
و لكن يشاء الموت أن يأتيها بغتة و هي في عمق الجنوب ..يأتيها ذات صباح خريفي من يوم 21 اكتوبر 1904 و هي في سن السابعة و العشرين اثر فيضان أحد الأودية بعد هطول امطار غزيرة أدت الى ردم قرية كاملة بعين الصفراء كانت الشابة تقطن فيها.و لم يعثر على جثتها الا بعد ثلاثة أيام غارقة في الأوحال تحت أنقاض بيتها.
و قد كتب عنها صديقها الجنرال "ليوتاي" كلمات تأبينية جميلة فقال:" كنا متفاهمين كثيرا محمود(ايزابيل) و أنا و سأظل محتفظا بالذكرى الرائعة لحكايانا المسائية .كانت أكثر ما يجذبني في هذا العالم: متمردة.أن تجد شخصا يمثل نفسه صادقا خارج المتعارف عليه و خارج القوالب المصنوعة و الكليشيهات الجاهزة ، يمضي في الحياة حرا كأنه طائر في الفضاء انه لشيء رائع .لقد أحببتها لما كانته و لما لم تكنه".
لم تترك ايزابيل وراءها غير بضعة مقالات منشورة في الصحف و بعض القصص (ياسمينة ، الخطيبة ، تاسعديت ، الساحر،...) و محاولة روائية (راخيل) و لكن حياتها العجيبة هي أكبر رواية تتركها.
و قد نشرت أعمالها بعد موتها .كما نشر الكثير عن حياتها .و لازالت الى يومنا هذا تثير الدهشة و الاستغراب و تسيل الكثير من الحبر.
و كانت كثيرا ما تسأل نفسها:لماذا أكتب؟
هوذا سؤال أي أديب...
الحب و الكتابة : حياة الأديب ..عالم الأديب ..رسالة الاديب، فان ربط بينهما بذلك الخيط الحريري الرفيع الذي يسمونه الصدق ، الصدق مع النفس و الصدق مع الناس و الصدق مع القلم كاد الاديب أن يكون قديسا.
فكانت ايزابيل تكتب بحب و كانت صاقة فيما كانت تكتبه الى أبعد الحدود كما كانت صادقة مع الناس الذين عاشرتهم و كتبت عنهم.كانت تريد أن تكون هي نفسها في كتاباتها كما في واقعها : مترفعة عن القوالب الاجتماعية و الأدبية السائدة في وقتها .و كانت تملك موهبة فذة تنبئ بمستقبل أدبي زاهر لولا أن الصمت جاء مبكرا.
"هذه هي حياتي ..حياة روح مغامرة ، متحررة من استبداد آلاف الأشياء الصغيرة التي نسميها "المكتسبات" و "العادات" و "الاعراف " و متشوقة الى حياة تحت الشمس ..حياة متغيرة و حرة "
أما أنا فأكتب عنها على بعد أكثر من قرن منها و على بعد مئات الاميال من ضريحها الذي أصبح مزارا و محجا للسواح و المهتمين بسيرتها في أصقاع العالم عرفانا لمحبتها لهذا الوطن و للشعب البسيط الذي يعمر جنبات هذا الوطن.و كانت تجيب في مذكراتها:"أكتب لانني أحب عملية الابداع الأدبي .أكتب كما أحب .و لأن ذاك على الأرجح هو قدري ..ذاك هو سلوتي الحقيقية".
وهيبة جموعي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق